خطاب قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى الحركات الكنسيّة والجماعات الجديدة في 30-5-1998

خطاب قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى الحركات الكنسيّة والجماعات الجديدة في 30-5-1998

القدّيس يوحنّا بولس الثاني

ساحة القديس بطرس، السبت 30 مايو/ايار 1998

بسبب ضيق المكان، سننقل هنا فقط المقال الذي يخصّ طريق الموعوظين الجديد الذي نشرته جريدة الأوسّرفاتوري رومانو في 29 مايو/أيّار 1998.

في الكنيسة الأولى، عندما كان العالم وثنيّيًا، كان على من يرغب بأن يصبح مسيحيًّا، أن يبدأ “موعوظيّة”، أي مسيرة تكوين ليتهيّأ للمعموديّة. اليوم، حملت عمليّة التعلمن كثيرًا من الناس على ترك الإيمان والكنيسة: لذلك أصبح من الضروريّ إستعادة مسيرة تنشئة على الإيمان المسيحيّ. طريق الموعوظين ليس حركةً أو جمعيّة، بل أداة في الرعايا، بخدمة الأساقفة، لإعادة كثير من الناس إلى الإيمان، بعد أن تخلَّوا عنه.

بدأ الطريق في بداية الستّينات، في إحدى ضواحي مدريد الأكثر فقرًا، وذلك على يد كيكو أرغويّو وكارمن هيرنانديث، وقد تبنّاه رئيس أساقفة مدريد في ذلك الوقت، المطران كازيميرو مورسِيّو، الذي لاحظ في قلب هذه الجماعة استعادة اكتشاف حقيقيّة لكلمة الله، وتأوينًا عمليًّا للتجديد الليتورجي الذي أقرّه المجمع الفاتيكاني المسكوني الثاني في تلك السنوات بالذات. وبعد أن برهنت الخبرة عن عملها الإيجابيّ في رعايا مدريد، اختار مجمع الطقوس المقدّسة، سنة 1974، إسم “طريق الموعوظين الجديد” وأطلقه على هذه الخبرة. إنّه طريق توبة تتمّ من خلاله إعادة اكتشاف ثروات الإنجيل.

انتشر الطريق في السنوات اللاحقة في 850 أبرشيّة في 105 دولة، تضمّ 15.000 جماعة داخل 4500 رعيّة. في سنة 1987، تمّ افتتاح الإكليريكيّة الإيبارشيّة الإرساليّة العالميّة، “ريدِمبتوريس ماتر” (أم الفادي)، في روما، وهي تستقبل شبّانا أنضجوا دعوتهم في جماعة من الطريق، ويعبّرون عن استعدادهم للذهاب إلى كلّ العالم. لاحقًا، اتّبع الكثير من الأساقفة اختبار روما، ويوجد اليوم في العالم 35 إكليريكيّة إيبارشيّة إرساليّة، “ريدِمبتوريس ماتر”، حيث يتمّ تكوين أكثر من ألف إكليريكيّ. مؤخّرًا، وباستجابة لدعوة البابا لأجل التبشير الجديد،  تقدّمت عائلات كثيرة، بعد أن عمِلت مسيرة الطريق،  لمساعدة رسالة الكنيسة؛ فذهبت للعيش في مناطق العالم  الأكثر تعلمنًا وفقدانًا للمسيحيّة، وهي تساهم في تهيئة ولادة رعايا إرساليّة جديدة

في بداية اللقاء، بعد خطاب المناسبة الذي ألقاه الكاردينال ستافّورد، تحدث عن خبرته كلّ من كيارا لوبيك، كيكوأرغويّو، المونسنيور لويدجي دجيوسّاني وجان فانيِيه

نذكر هنا مداخلة كيكو أرغويّو بمناسبة لقاء الأب الأقدس مع الحركات الكنسيّة والجماعات الجديدة

نحن سعداء جدّا، يا قداسة البابا، لأنّك دعوتنا لنشكر الربّ من أجل العطايا الرائعة للرسالة، والقداسة، والحبّ، والتبشير الذي يبعثه الروح القدس في الكنيسة، كثمرة للمجمع، لكي يهيّئها لتبشير العالم المتعلمِن، ويمكّنها من تحقيق التبشير الجديد.

شكرًا للفرصة التي تُسنح لي لأشكر الله أمام “بطرس”ومعي كلّ هؤلاء الإخوة، الذي كانوا بأكثريّتهم بعيدين عن الكنيسة. وبسبب الخوف من الموت، كانوا يعيشون، مثلي، عبيدًا للشيطان، كما تقول الرسالة إلىالعبرانيّين (ر. عب 2: 14-15). ولكنّ الله أرسل ابنه لكي يحرّرنا؛ وبفضل موته وقيامته،  انتزع المسيح  قوّة الشيطان.  وكقائم من الموت، صعد إلى السماء، وهو يقدّم للآب جراحاته، من أجل كلّ البشر، ويُرسل إلينا الروح القدس. هكذا يشهد الروح لأرواحنا أنّنا أبناء الله، بشرٌ مخلّصون من سلطان الموت، ومن إغواء اللحم ومن خدع العالم، وبالأخص من لعنة  البحث عنإرضاء أنفسنا في كلّ الأشياء. أمّا المسيح فقد جعلنا مشاركين في طبيعته. يمكننا أن نحبّ كما هوأحبّنا، أي أن نحبّ  أبعد من الموت، لأنّه يعطينا حياته، يعطينا الحياة الأبديّة.    

ولكن، كيف يمكننا أن نحمل هذا الغِنى العظيم إلى كلّ البشر، بلغة جديدة في طريق يقدر أن يكوّنهم للحياة الإلهيّة؟ هذا هو طريق الموعوظين الجديد. أرسلني الله مع كارمن هيرنانديث لنعيش بين الفقراء، حيث ساعدنا، مع الأكثر بؤسًا، لكي نجد خلاصة تعليميّة، كريغما لإعادة اكتشاف السرّ الفصحيّ، عبر ليتورجيّة حيّة، قادرة على تغيير الأشخاص، وعلى الخصوص، على إظهار الجماعة المسيحيّة. ننطلق في كلّ شيء من المجمع الفاتيكاني الثاني، ولذلك فنحن أداة للمساعدة على حمل التجديد المجمعي إلى الرعايا. نحن نعتقد بأن المجمع كان جواب الروح القدس على تحدّيات الألف الثالث، وعلى الأخص، تحدّي التعلمن.

في مؤتمر الأساقفة الأوروبيّين، وبعدما تكلّمتَ، قداستك،  عن التعلمن الذي يهدّم العائلة، قلت للأساقفة، سنة 1985: لقد أجاب الروح القدس على هذا التحدّي، وأعطى الجواب، لأنّ المسيح هو الذي يخلّص كنيسته. لقد دعوت الأساقفة للبحث عن العلامات حيث سبق للروح القدس أن ألهمها. قلتَ بأنّه من الملحّ القيام ببشارة جديدة تستلهم من النموذج الرسوليّ الأوّليّ. وقتها أيضًا كان هناك توحيد للثقافة؛ ال”سلام الرومانيّ” وحّد عالم البحر المتوسّط: لغة واحدة، ثقافة واحدة  سمحت للكنيسة بأن تنتشر بسرعة. كما ترى، أيّها الأب الأقدس، هذه الساحة مليئة بإخوة كثيرين. أنظر كم من الجماعات الكنسيّة:  كلماتك، منذ 13 سنة، كانت نبويّة. هذه هي نفحة الروح القدس الذي يريد أن يساعد في تجديد الكنيسة. لكي نبشّر الإنسان المعاصر، نحتاج إلى علامات تدعوه إلى الإيمان. يقول المسيح: أَحِبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم، فيعرف العالم أنّكم تلاميذي؛ كونوا واحدًا بالتمام، فيؤمن العالم. ولكنّنا نسأل: أين توجد قامة الإيمان هذه في رعايانا، بحيث يمكن أن تصبح سرًّا مقدّسًا،علامة، للإنسان المُتعلمن؟ أين هو هذا الحبّ للعدوّ الذي يمكن إظهاره، كما أحبّنا المسيح عندما كنّا أعداؤه؟ 

يريد طريق الموعوظين الجديد أن يكون أيضًا، كما باقي الجماعات المسيحيّة العديدة الأخرى، مسيرة في الرعيّة، لكي يجعل الإيمان العِماديّ ينمو وينجح في تكوين جماعات مسيحيّة تُظهِر حبّ المسيح لكلّ البشر، أعني حبًّا جديدًا، حقيقة جديدة للعالم، حبّ العدوّ، الحبّ ببُعد الصليب. لكي نصل إلى قامة الإيمان هذه، نحن نقول بضرورة  تكوين جماعات مثل عائلة الناصرة  المقدّسة، حيث يمكن أن ينمو الإيمان الذي تلقّيناه، كما حدث لابن الله، الذي احتاج إلى جماعة لينمو كرجل، ويصبح بالغًا. على إيماننا أن يصبح بالغًا، ويتمكّن من إعطاء علامات للإنسان المعاصر. قداستك! لقد رأينا ثمارًا عظيمة تنمو في مسيرة الإيمان هذه: عائلات أُعيدَ بناؤها، عائلات مُنفتحة على الحياة، وفيها أكثر من6 أو7 أولاد، حتى 9 أولاد، وكثير من الشبّان الذين خُلِّصوا من المخدّرات، وآلاف من الدعوات للإكليريكيّات وللحياة المكرّسة والتأمّليّة، وعائلات تقدّم نفسها لتبشير الأماكن الأكثر صعوبة. كلّ هذا لم يكن ممكنًا حدوثه بدون مساعدة الأساقفة، وعلى الأخص بدون دعم “بطرس”. بطرس! لقد دافع عنّا بولس السادس، منذ أوّل لقاء له معنا، بوجه الكثير من الاتّهامات قائلاً: “أنتم تعملون، بعد العماد، ما كانت الكنيسة الأولى تعمله قبل العماد”. وأضاف: “قبل أو بعد هو شيء ثانويّ، المهم أنّكم تبتغون الأصالة، وملء الحياة المسيحيّة، وهذا استحقاق عظيم يعزّينا جميعًا”.

ولكن قداستك، على الأخص، بزيارتك رعايا روما، كلّمتنا أكثر من 200 مرّة بجرأة كبيرة، مُرسلاً عائلات، ومشجّعًا إيّانا على فتح إكليريكيّات “ريدِمبتوريس ماتِر”. قداستك دعمتنا عندما ثبّتنا، وساعدتنا، ومشيت معنا، سامحًا بأن يتمّ تصويرك مع كلّ عائلة مُنطلقة إلى الرسالة، لكي يعلم الجميع أنّها عائلات مُرسلة من البابا. وساعدتنا في الليتورجيا، عندما أتيت شخصيًّا لتحتفل بالافخارستيّا معنا، لكي تشجّع كلّ الأساقفة، وعلى الأخص من خلال اعترافك بالطريق في رسالتك إلى المونسنيور كورديس، حين أعلنت: “أعترف بطريق الموعوظين الجديد كمسيرة تنشئة كاثوليكيّة صالحة للأزمنة الحاضرة ولإنسان اليوم”. صاحب القداسة، استمرّ بمساعدتنا لأنّ هذا العمل يتخطّانا بشكل عظيم، ونحن نشعر بأنّنا فقيرون جدًّا، بل خدّامٌ لا نفع فينا، وبالأكثر، معثرة تامّة. بدون “بطرس” لن نقدر على الاستمرار والمتابعة. شكرًا على كلّ شيء. 

 

ننقل هنا خطاب الأب الأقدس يوحنّا بولس الثاني، في عصر يوم السبت 30 مايو/ أيّار، إلى حوالي 500.000 شخص ينتمون إلى حركات كنسيّة وإلى الجماعات الجديدة، وهم الذين شاركوا بهذا اللقاء الاستثنائيّ، في ساحة مار بطرس:

“فَحَدَثَ بَغْتَةً دَوِيٌّ مِنَ السَّمَاءِ كَأَنَّهُ دَوِيُّ رِيحٍ عَاصِفَة، ومَلأَ كُلَّ البَيْتِ حَيثُ كانُوا جَالِسين. وظَهَرَتْ لَهُم أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَار، واسْتَقَرَّ عَلى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم لِسَان. وامْتَلأُوا كُلُّهُم مِنَ الرُّوحِ القُدُس” (رسل 2: 2-3).

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!

  1. يُدخلنا سفر أعمال الرسل بهذه الكلمات إلى قلب حدث العنصرة. وتجعلنا نرى كيف ان التلاميذ، الذين اجتمعوا مع مريم في العليّة، يتلقّون هبة الروح. وهكذا يتحقّق وعد يسوع ويبدأ زمن الكنيسة. منذ ذلك الوقت، حملت عاصفة الروح ذاتها تلاميذ المسيح إلى أقاصي الأرض. وستأخذهم حتى الاستشهاد بشهادتهم الشُجاعة للإنجيل.

          يبدو أن ما حدث في اورشليم قبل 2000 سنة يتكرّر مساءَ هذا اليوم في هذه الساحة، قلب العالم المسيحي. مِثل الرسل آنذاك، نجد أنفسنا أيضًا مجتمعين في غرفة عليّة كبيرة في العنصرة، نتوق إلى تدفُّق الروح. وهنا نودّ أن نَشهد مع الكنيسة كلها “الروح واحد… الرب واحد… الله واحد وهو الذي يعمل في الجميع كلّ شيء” (1 قور 12: 4-6). هذا هو الجو الذي نودّ أن نعيشه من جديد، مناشدين مواهب الروح القدس لكل واحد منّا ولجميع المُعمّدين.

  1. أحيّي الكاردينال جيمس فرانسيس ستافورد، رئيس المجلس الحبري للعلمانيين، وأشكره على الكلمات التي خاطبني بها، باسمكم أيضًا، في بداية هذا الاجتماع. أحيّي معه الكرادلة والأساقفة الحاضرين. أوجه تحيّة إمتنان خاصة إلى كيارا لوبيتش، كيكو أرغويّو، جان فانييه ومونسنيور لويجي جيوساني لشهاداتهم المؤثرة. معهم أحيي مؤسسي الجماعات والحركات الجديدة المُمثلة هنا وقادتهم. أخيرًا، أود أن أخاطب كل واحد منكم أيها الإخوة والأخوات الذين ينتمون إلى احدى الحركات الكنسية. لقد قبلتم على الفور وبحماس الدعوة التي وجهتها إليكم في عيد العنصرة 1996، وأعددتم أنفسكم بعناية، بتوجيه من المجلس الحبري للعلمانيين، لهذا الاجتماع الاستثنائي الذي يجعلنا ننطلق نحو اليوبيل الكبير لسنة 2000.

          حدث اليوم غير مسبوق حقًا: لأول مرة تجتمع الحركات والجماعات الكنسيّة الجديدة مع البابا. إنها “الشهادة المُشتركة” العظيمة التي تمنيتها لهذه السنة، المكرّسة للروح القدس، في مسيرة الكنيسة إلى اليوبيل العظيم. الروح القدس هنا معنا! إنه روح هذا الحدث الرائع في الشركة الكنسيّة. حقًا، “هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ولنتهلّل به” (مز 117: 24).

  1. في اورشليم، قبل ما يقارب 2000 سنة، في يوم الخمسين، أمام جمهور مذهول وساخر، وبسبب التغيير غير المبرّر الذي وجدوه في الرسل، يعلن بطرس بشجاعة: “إِنَّ يَسُوعَ النَّاصِرِيّ، ذَاكَ الرَّجُلَ الَّذِي أَيَّدَهُ اللهُ مِنْ أَجْلِكُم… صَلَبْتُمُوهُ بِأَيْدِي الكُفَّارِ وقَتَلْتُمُوه. لكِنَّ اللهَ أَقَامَهُ” (رسل 2: 22-24). تُعبّر كلمات بطرس عن وعي الكنيسة الذاتي، على أساس اليقين بأن يسوع المسيح حيّ، وهو يعمل في الحاضر ويغيّر الحياة.

          يكشف الروح القدس، الذي كان حاضرًا بالفعل في خلق العالم والعهد القديم، عن نفسه في التجسد والسّر الفصحي لابن الله، حيث أنه “ينفجر” في العنصرة ليُنمّي رسالة المسيح الرب في الزمان والمكان. وهكذا يجعل الروح الكنيسة تيارًا من الحياة الجديدة التي تتدفق عبر تاريخ البشرية.

  1. مع المجمع الفاتيكاني الثاني، أعطى المُعزّي الكنيسة مؤخرًا، والتي وفقًا للآباء هي المكان “حيث يزدهر الروح” (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، رقم 749)، عنصرة مُتجددة، مُدخلًا بذلك دينامية جديّة وغير متوقعة.

          عندما يتدخّل الروح، يترك الناس مُندهشين. فهو يُحضر أحداثَ تجدّدٍ مُذهلة. ويغيّر جذريًا الأشخاص والتاريخ. كانت هذه التجربة التي لا تُنسى للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، حيث أعادت الكنيسة، بتوجيهٍ من الروح نفسه، اكتشاف البُعد المواهبي كأحد عناصرها التأسيسية: “ليس فقط من خلال الأسرار والخدمات الكنسيَة يُقدّس الروح القدس الشعب ويقودهم ويثريهم بفضائله، بل هو يوزّع مواهبه كما يشاء” (ر. 1 قور 12: 11)، ويوزّع النعم الخاصة بين المؤمنين من كل رتبة… يجعلهم لائقين ومُستعدين للقيام بمهامٍ وخدمات مختلفة لتجديد الكنيسة وبنائها” (نور الأمم، رقم 12).

          إن الجوانب المؤسساتية والمواهبية تحمل نفس العناصر الأساسيّة في تكوين الكنيسة وتساهم في حياتها، وإن بشكل مختلف، وفي تجديد شعب الله وتقدّيسه. فإنطلاقًا من اعادة اكتشاف هذا البُعد المواهبي للكنيسة، نمت بشكل ملحوظ الحركات الكنسيّة والجماعات الجديدة قبل المجمع وبعده.

  1. تبتهج الكنيسة اليوم بالتأكيد المُتجدّد لكلمات يوئيل النبي التي سمعناها للتو: “أُفِيضُ مِنْ رُوحِي عَلى كُلِّ بَشَر” (رسل 2: 17). أنتم، الحاضرون هنا، الدليل الملموس على “تدفُّق” الروح هذا. كل حركة هي مختلفة عن الأخرى، ولكنكم كلكم متحدين في نفس الشركة ونفس الرسالة. تتفجّر بعض المواهب التي يمنحها الروح مثل رياح متهورة، فتقبض على الناس وتحملهم إلى طرق جديدة للالتزام الإرسالي والخدمة الراديكالية للإنجيل، من خلال إعلان حقائق الإيمان بلا توقف، وقبول التيار الحيّ للتقليد كعطيّة وغرس الرغبة الجامحة الى القداسة في كل شخص.

          اليوم، أود أن أصرخ لكم جميعًا انتم المجتمعين هنا في ساحة القديس بطرس ولكل المسيحيين: انفتحوا بمرونة على مواهب الروح! تقبّلوا بامتنان وبطاعة المواهب التي لا يتوقف الروح عن منحها لنا! لا تنسَوا أن كلّ موهبة تُعطى من أجل الخير العام، أي لخير الكنيسة كلها.

6. إن المواهب، بحُكم طبيعتها، تقوم على التواصل وتؤدي إلى “الإلفة الروحيّة بين الأشخاص، (أنظر “كريستيفيديليس لايِتشي” العلمانيون المؤمنون بالمسيح ، رقم 24) وهذه الصداقة في المسيح هي أصل “الحركات”. يَحدُث الانتقال من الموهبة الأصليّة إلى الحركة من خلال الجاذبية السّرية التي يحملها المؤسس لأولئك الذين يشاركون في تجربته الروحيّة. وبهذه الطريقة تُقدّم الحركات المُعترف بها رسميًا من قبل السُلطة الكنسيّة نفسها كأشكالٍ لتحقيق الذات وكإنعكاسات للكنيسة الواحدة. حملت ولادتهم وانتشارهم إلى حياة الكنيسة حداثة غير متوقعة قد تكون مُدمّرة في بعض الأحيان. وقد أثار هذا أسئلة وعدم ارتياح وتوترات. في بعض الأحيان أدى ذلك إلى الافتراضات والتجاوزات من ناحية، ومن ناحية أخرى، إلى العديد من التحيّزات والتحفُظات. كانت فترة اختبار لإخلاصهم، وهي مُناسَبة مهمة للتحقّق من صحة مواهبهم. اليوم تتكشّف أمامكم مرحلة جديدة: مرحلة النُضج الكنسي. هذا لا يعني أن جميع المشاكل قد تمّ حلّها. بل هو تحدٍ. طريقٌ يجب أن تسلكوه. تتوقّع الكنيسة منكم ثمار الشركة والالتزام “الناضجة”.

7. في عالمنا، الذي تُهيمن عليه غالبًا ثقافة علمانية تُشجّع نماذج الحياة من دون الله، يتم اختبار إيمان الكثيرين بشكلٍ مؤلم، وكثيرًا ما يتمّ خنقه فيموت. وهكذا نرى الحاجة المُلحة لإعلان قوي وتكوين مسيحي متين ومُتعمّق. هناك حاجة ماسّة اليوم لشخصيات مسيحيّة ناضجة، واعية لهوية معموديتها ودعوتها ورسالتها في الكنيسة وفي العالم! هناك حاجة كبيرة للجماعات المسيحيّة الحيّة! وها هي الحركات والجماعات الكنسيّة الجديدة: هي الاستجابة التي أعطاها الروح القدس لهذا التحدّي الحاسم في نهاية الألفية. أنتم هذا الجواب الإلهي. لا يمكن أن تَهدف المواهب الحقيقيّة سوى للقاء المسيح في الأسرار. لقد ساعدتكم الحقائق الكنسيّة التي تنتمون إليها في إعادة اكتشاف دعوة معموديتكم، وتقدير مواهب الروح التي تلقيتموها عند التثبيت، وأن تعهدوا بأنفسكم لمغفرة الله في سر المصالحة، وان تعترفوا بالإفخارستيا كمصدر لكل الحياة المسيحيّة وقمتها. بفضل هذه الخبرة الكنسيّة القوية، نشأت عائلات مسيحيّة رائعة ومُنفتحة على الحياة، “كنائس محليّة” حقيقيّة، وازدهرت العديد من الدعوات إلى كهنوت الخدمة والحياة الرهبانيّة، بالإضافة إلى أشكال جديدة من الحياة العلمانيّة المستوحاة من المشورات الإنجيليّة. لقد تعلمّتم في الحركات والجماعات الجديدة أن الإيمان ليس كلامًا تجريديًا، ولا مشاعر دينيّة غامضة، بل حياة ٌجديدة في المسيح زرعها الروح القدس.

  1. كيف يمكن حماية وضمان أصالة الموهبة؟ من الضروري في هذا الصدد أن تخضع كل حركة لتمييز السُلطة الكنسيّة المختصة. لهذا السبب لا يمكن لأي موهبة أن تستغني عن مرجعية رعاة الكنيسة والخضوع لهم. كتب المجمع بعبارات واضحة: “يعود للمسؤولين في الكنيسة ان يحكموا في أصالة هذه العطايا وحسن استعمالها. وحرّي بهم خاصة لا ان يطفئوا الروح، بل ان يمتحنوا كل شيء: ليتمسّكوا بما هو حسن” (ر. 1 تس 5: 12؛ 19-21) “(نور الأمم، رقم 12). هذا هو الضمان الضروري بأنكم تسلكون الطريق الصحيح!

          في الارتباك الذي يسود العالم اليوم، من السهل أن تٌخطئ، وأن تستسلم للأوهام. لا تجعلوا هذا العنصر من الثقة المطيعة للأساقفة، خلفاء الرسل، والشركة مع خليفة بطرس، ينقص في التكوين المسيحي الذي تقدّمه حركاتكم! أنتم تعرفون المعايير الكنسيّة للجماعات العلمانية الموجودة في الإرشاد الرسولي ،العلمانيون المؤمنون بالمسيح ” كريستيفيديليس لايِتشي”(ر. رقم 30). أطلبُ منكم دائمًا أن تلتزموا بها بسخاء وتواضع، وان تُحضروا إختباراتكم إلى الكنائس المحليّة والرعايا، مع البقاء دائمًا في شركة مع الرعاة والتنبُّه لإرشاداتهم.

  1. قال يسوع: “جِئْتُ أُلْقِي عَلَى الأَرْضِ نَارًا، وَكَمْ أَوَدُّ لَوْ تَكُونُ قَدِ اشْتَعَلَتْ!” (لو 12: 49). بينما تستعّد الكنيسة لعبور عتبة الألفية الثالثة، فلنَقبل دعوة الرب، حتى تنتشر ناره في قلوبنا وفي قلوب إخوتنا وأخواتنا.

          اليوم، من هذه الغرفة العُلويّة في ساحة القديس بطرس، ترتفع صلاةٌ عظيمة: تعال أيها الروح القدس، تعال وجدّد وجه الأرض! تعال مع عطاياك السبع! تعال، يا روح الحياة، يا روح الشركة والحب! الكنيسة والعالم بحاجة إليك. تعال أيهّا الروح القدس واجعل المواهب التي منحتنا إياها مثمرة أكثر من أي وقت مضى. امنح قوة جديدة وغيرة رسولية لأبنائك وبناتك المجتمعين هنا. افتح قلوبهم. جدّد التزامهم المسيحي في العالم. إجعلهم رسلًا شجعانًا للإنجيل، وشهودًا ليسوع المسيح القائم، مُخلّص الإنسان وفاديه. قوِّ حبّهم وإخلاصهم للكنيسة.

          لنتأمل مريم، تلميذة المسيح الأولى، وعروس الروح القدس وأم الكنيسة، التي كانت مع الرسل في العنصرة الأولى، كي تساعدنا لنتعلم من إنقيادها الطيّع إلى صوت الروح.

          اليوم، من هذه الساحة، يقول المسيح لكل واحد منكم: “إِذْهَبُوا إِلى العَالَمِ كُلِّهِ، وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّها” (مر 16: 15). إنه يعتمد على كل واحد منكم، وكذلك تفعل الكنيسة. لقد وعدكم الرب، “أَنَا مَعَكُم كُلَّ الأَيَّامِ إِلى نِهَايَةِ العَالَم” (متى 28: 20).

أنا معكم.

آمين!

ر. الأوسيرفاتوري رومانو، 1-2 يونيو/ حزيران، 1998.