الأكادميّة الكاثوليكيّة

10- 6- 2018

هذا هو خطاب الكاردينال روكو بمناسبة تقدمة كتاب كيكو “مدوّنات” في مدينة برلين

إنه الخطاب الأول الذي يلقيه عالِم ممتاز في اللاهوت وفي قوانين الكنيسة، بالإضافة إلى كونه رئيس أساقفة مدريد الفخري، والذي طالما رافق كيكو وكارمن ودعمهما بقربه ومحبته ومودّته. في هذا الخطاب، يصف الكاردينال روكو البيئة الاجتماعية والكنسيّة للسنوات الأخيرة من المجمع الفاتيكاني الثاني، حيث ألهم الرّب كيكو من خلال مريم العذراء بتكوين “جماعات تعيش في التواضع والبساطة والتسبيح؛ الآخر هو المسيح”. إنه إلهامٌ نبويٌّ نراه اليوم يتحقّق.

الكاردينال روكو: سيداتي وسادتي الموقّرين،

إنه لشرف عظيم وفرح حقيقي لي بأن أقدّم إليكم كتاب “مدوّنات 1968-2014” لكيكو أرغويّو، بادىء طريق الموعوظين الجديد مع كارمن هيرنانديز، المتوفاة مؤخرًا، والأب ماريو بيتّسي. إن عدم ترجمة الكلمة الإسبانيّة “مدوّنات”“Anotaciones” إلى الألمانية يدل بشكل قاطع على تفرّدها: هل هي مدوّنات عاديّة؟ أم ملاحظات بسيطة على منهج شخصيّ وكنسيّ؟ أم مذكرات سيرة ذاتية؟ أم هي حقًّا يوميّات مقيّدة بفترةٍ زمنيةٍ معينةٍ؟ لأنه، في الواقع، يتم توزيع النص على شكل ملاحظات تم تسجيلها يوميًا ،حتى لو تمّ ذلك مع قفزات في التاريخ، وحتى في السنوات: أحداث، لقاءات، اختبارات روحيّة ودينيّة، اختبارات صلاة حميمة مكتوبةً بشكلٍ شعريٍّ. يعود تاريخ الحاشية الأولى إلى 11 يوليو/ تموز1989 في بياف دي كادوري ،أمّا الحاشية الأخيرة فيعود تاريخها إلى 20 أغسطس/ آب 2014 في مغارة جبل موراتالّا بقرب كارافاكا دي لا كروز في مورسيا، أسبانيا.

ولكن بعد قراءة مكثفة للكتاب، تتبادر إلى ذهني كلمة، في رأيي، أكثر ملاءمة لعنوان الكتاب وهي: إعترافات.

  1 . نعم، يعتبر المؤلف نفسه ابنًا ضالًا ليس فقط للكنيسة بل أيضًا لله، وقد نال نعمة غير عاديّة من خلال قرب مريم، والدة الرب، الأموميّ منه، والتي منحته  نعمة ارتداد روحيّ لا يقاوم إلى يسوع المسيح، ربّه ومخلصه. إن حبّ المسيح الرحيم، الذي يفيض به، لمس قلب الكاتب في السنوات الحاسمة لمستقبله، أي سنوات نموّه البشريّ والروحيّ في مرحلة الشباب، خلال فترة النضوج: هي سنوات حاسمة لخلاص الإنسان أو هلاكه.  يعبّر الكاتب عن هذا بقوله: “أنت بحثتَ عني وصُلبت. لم تقاوم الشرّ، ولم تهرب، وأكملت مُحبًّا إيّاي، وأردت أن تدخل فيّ. قبلتَ الموت عندما تحوّلت “الأنا” التي فيك إلى “أنت”. قدّمتَ نفسك لأجلي، أنا القاتل، فقبل الله الآب تقدمتك، وأقامك من الموت”. “غفرت لي وجعلتني دومًا جسدًا واحدًا معك. ظهر الحبّ الذي لم أكن أعرفه” (عدد 22). “آه أيّ ألم هي الحياة وخطاياي، من دونك!” (عدد 18). الرسّام الشاب الموهوب نفسه، وهو الذي يتحدّر من عائلةٍ من الطبقةِ المتوسّطة في مدريد، والذي فاز بالجائزة الوطنية للرسم الإسباني في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وكان أمامه مستقبلٌ واعدٌ، وجد نفسه منغمسًا في أزمةٍ روحية عميقةٍ جدًا ،فشعر بأن الرّبّ يدعوه ليشارك مصيره مع فقراء ضواحي مدريد. إنّها مدينةٌ ذاتَ أحياءٍ موحلةٍ تنمو لتصبح مدينة يسكن فيها ملايين من السكان، مثقلة بكمٍّ هائلٍ من مختلف المشاكل الاجتماعية. هكذا كانت مدريد، عاصمة إسبانيا، بعد عشرين عامًا فقط من انتهاء ثلاث سنوات من الحرب الأهلية. مع الكتاب المقدس في يده وكيثارة بحزام الكتف، ذهب الرسّام الشاب كيكو أرغويّو بلحية طويلة وملابس مهملة -هيبي حقيقي!- لمقابلة الأفقر بالجسد والروح في أكواخ الضواحي المهجورة ،في تلك المدينة الكبيرة التي كانت تنمو ديموغرافيًا ومعماريًا بوتيرة مذهلة. كان يهمّه فقط إعلان الكريغما (الخبر السّار) بطريقة مباشرة وقويّة، وفي نفس الوقت مليئة بالتواضع أمام الناس الذين عملت فيهم قوة الخطيئة والموت بأكثر الطرق إهانة، والتي أدّت إلى جَرح أبسط جوانب الكرامة الإنسانية لديهم. مع هؤلاء، أفقر الفقراء، تشارك كيكو طاولة وسقفًا وصداقةً واستعدادًا للخدمة؛ بإختصارٍ لقد شارك مصيرهم: مع ماريانو السّكران ليالٍ كثيرة، خُواكين وأنطونيا، خوسِه أغودو وروساريو… مع السّيّد خوان الّذي كان ينام بين النّفايات، كارمن الأخرى (1)، وامرأة ماريانو، وفْلور الّتي كانت مع كارمن في كوخها، ودومينغو، والـ«تْشولو مولِتَس»، «البلطجيّ على العكّازَين»، الّذي كان يستعطي في المِترو…، وكثيرين غيرهم. ثم أيضًا مع الكلاب الخمسة عشر، بدون سيد، التي التصقت به وتبعته… وطاردته إلى الحافلة وإلى محطة مترو أتوتشا، حتى أوقفته الشرطة مع الكلاب وأصدقائه وطردوهم. “كانت الكلاب ترافقني بكل سعادة وهي تصعد السلالم معي. لم يكن يُجدي أن أقولَ أنّها لا تَخصُّني…”. في هذه المنطقة المهجورة بشريًا ،التي كانت تُسمّى “بالوميراس”، وُلدت أوّل جماعة موعوظيّة جديدة صغيرة. “كارمن الأخرى”،  لتمييزها عن كارمن هيرنانديز: كانت امرأة من وسط مدريد، من عائلة جيّدة، كانت تذهب من وقت لآخر إلى الأكواخ لتجلب الأدوية. (ملاحظة المترجم).

إنّ المحاضرات التي ألقاها البروفيسور بيدرو فارنيز في المعهد الرعوي بمدريد، والتي عُقد فيها الاجتماع مع كارمن هيرنانديز، شكّلت بالنسبة له الاكتشاف الفكري للعُمق اللاهوتي المَبني على التجديد الكنسي والليتورجي للمجمع الفاتيكاني الثاني، والذي كان سيُعطي لمسيرة التنشئة الكنسيّة والروحيّة لأوّل جماعات طريق الموعوظين الجديد أساسًا متينًا وصلبًا في ما يخصّ العقيدة والتعليم المسيحي والممارسة الليتورجية. في هذا الوقت من ولادة طريق الموعوظين الجديد ،لم يغب الفهم الرعوي ّوالدعم الكنسيّ والتعاطف الشخصي لرئيس أساقفة مدريد الأول، د. كاسيميرو مورسيّو، أحد أهم الشخصيات الأسقفيّة، ومن بين أفضلها، خلال المجمع الفاتيكاني الثاني. في تلك البداية لشكل جديد من البشارة، مليء بالمغامرات، تأثّر كيكو أرغويّو بقرب الرّب منه،وشعر به في أعماق روحه: “حياتي هي أنت، يا رب، وحضورك المتواصل”.

الحبّ، حبّك لي، الكامل، المطلق، اللاّمتناهي، المليء حنانًا ورأفة. وثيق أنت، يا ربّ. أودّ أن أكون، وأكون فيك! يا فجرَ الحبّ، والحياةِ الأبديّة” (عدد 459).

“الشّرّ، يا له من سرّ! لماذا؟ النّاس تسرق، تكذب، تزني، تغتال، تقتل… جُنَّ العقل والنّفس غريقة”، والجواب على موضوع الشر: ” إنّه هو، رحمته !”.

في الدّرب الخفيّ، في تلك الغابة المظلمة، عبْرَ السّلالم السّرّيّة متنكّرةً بألف آهات الحبّ، والنّفس مجروحة… يا يسوع، ارأفْ بي!… اجعلْني واحدًا، واحدًا فيك بالتّمام”. (عدد 456-461).

2 . “اعترافات” من موهبة غير عاديّة، تمّ احتُضانها وقبولها لصالح خير الكنيسة الجامعة.

لقد كان ذلك الوقت وقتًا تاريخيًّا  بمناسبة انعقاد المجمع ، الذي يمثّل حقبة أساسيّة في تاريخ الكنيسة. كان وقتًا مليئًا  بالمسائل الرعوية والشكوك والاضطرابات؛ ولكنّه كان  أيضًا مليئًا نبَفَسٍ لاهوتيٍّ ورعويٍّ أقوى. كما حدث في جميع مراحلها التاريخية الانتقاليّة التجديديّة، حدث ايضًا في هذا المنعطف التاريخي الخلاصيّ  من حياة الكنيسة، إذ ملأها الرب، مؤسّسها الإلهيّ ورأسها وراعيها الأسمى الحقيقي ّوغير المرئيّ، بمواهب الروح القدس الخاصّة، أي تلك المواهب غير العاديّة التي تحَدَّث عنها المجمع الفاتيكاني الثاني في الدستور العقائدي عن الكنيسة: “لومِن جينتسيوم” (راجع نور الأمم عدد 12).

إن التوبة التي اختبرها كيكو أرغويّو في الوقت الذي سبق المجمع مباشرة -عودة غير مشروطة إلى منزل الآب!- لم تكن فقط توبة روحيّة، بل أيضًا رسوليّة وكنسيّة متجليّة لدرجة أنّه لم يكن يتصوّر إمكانيّة  اتّباع المسيح إلا في الشكل الرسوليّ، أي في التكرّس بالكامل للرّسالة داخل الجماعة الكنسيّة وخارج حدودها الخارجية والداخلية. لم تكن خطيئته وحدها سببًا لألم قلبه العميق، بل خطيئة معاصريه أيضًا،  ولا سيّما خطايا رجال أوروبا، التي كانت مسيحيّة، ورجال وطنه إسبانيا: “أنا كائن حقير ومرائي… يا يسوع، يا ربّي… تعال! ساعدني… فقط فيك أنت أجدً حبّا للآخرين… بؤسهم وآلامهم تحرّك مشاعري، وأفكّر… لو كانوا يعرفون حبّك… لقد تمّ طردُك من المدينة، واقتادوك إلى خارجها، كما يحملون الزبالة خارجّا، وكما كانوا يقتادون كبش التكفير الذي كانوا يرمون عليه كلّ خطايا الشعب” (عدد 24).

مرة أخرى، كان من الضروريّ إعلان الخبر السّار بكل تفسيره الإنجيلي، وبشكلٍ مُنفتحٍ وعلنيٍّ. بدأ “التبشير الجديد” بالظهور ، وهو  ما أكّده فيما بعد القديس يوحنا بولس الثاني، بقوّة ومثابرة طوال فترة حبريته. وقد نتجت بداية هذا الإنجاز المسيحيّ المثمر من الكلمات التي وجهتها القدّيسة مريم العذراء إلى كيكو أرغويّو -وفقًا لشهادته- في تاريخ 8 ديسمبر/ كانون الأوّل 1959: “تجب إقامة جماعات مسيحيّة مثل عائلة الناصرة تعيش في التواضع، والبساطة والتسبيح؛ الآخر هو المسيح” (مدوّنات ص. 5)

“تعطي الثقافة الأوروبيّة انطباعًا عن “الجحود الصامت” من قبل الانسان الذي يتمتع بالاكتفاء الذاتي، والذي يعيش كما لو أن الله غير موجود”: هذا ما  يقوله الأب الأقدس يوحنا بولس الثاني في إرشاده ما بعد السينودس “الكنيسة في أوروبا” في تاريخ 28 يونيو/ حزيران 2003، رقم 9.  لذلك،  وأمام أزمة الإيمان العميقة والواسعة النطاق التي تواجد فيها العالم المسيحيّ، وعلى الأخص، القارّة الأوروبية ذات التاريخ المسيحيّ القديم، أصبح لا غنى عن الجماعات الكنسيّة الصغيرة. وبهدف تحقيق هذا الشيء، يجب أن تبدأ مسيرة راعوية مناسبة لا غنى عنها تقريبًا، وذلك ن خلال تأسيس وممارسة موعوظيّة جديدة للمعمّدين، في شكل متجدّد مقارنة بالموعوظيّة القديمة في القرون الأولى من تاريخ الكنيسة. من الممكن أن ندرك جيدًا، بفضل كتاب كيكو أرغويّو، كيف تطوّرت الموهبة الجديدة لطريق الموعوظين الجديد،  روحيًا وكنسيًا ورعويًا وقانونيًا، في العقود الخمسة الأخيرة من تاريخ الكنيسة المعاصرة. أمام سوء الفهم اللاهوتي، وقبل كل ّشيء الرعويّ، لدى الكثيرين -سواء رجال دين أم علمانيّين- كان هناك ترحيب حماسيّ لعدد غير قليل من الكهنة والمؤمنين، الذين فتح لهم الطريق أفقًا  روحيًّا ورسوليًّا  جديدًا. أفقٌ أصبح من الواضح فيه بشكل أكبر أن التجديد الرعوي الأبرشي والرعاويّ، المسيحي والكرازيّ، كان ممكنًا وقابلاً للتحقيق، من خلال فهم حقيقيّ وصادق للعقيدة الكنسيّة المطابقة للمجمع الفاتيكاني الثاني، وتحديدًا كما  يُعلِّم الدستور العقائدي” نور الأمم” والدستور الراعوي “فرح ورجاء” عن الكنيسة في عالم اليوم.

باتباع التسلسل السرديّ للمدوّنات، والتي تحتوي على العديد من البيانات، نرى كيف سافر بادىء طريق الموعوظين الجديد مع كارمن هيرنانديز والأب ماريو بيتّسي حول العالم بأسره بوتيرة تحبس الأنفاس، مُتعبين لدرجة الإرهاق، وفي فترة زمنية تبلغ عقدين فقط، بهدف إعلان الخبر السار لقيامة الرّبّ، والإجتماع بالمبشّرين المتجوّلين وتشجيعهم، ولِلقاء أخوة الجماعات وتقويتهم في رسالتهم في العالم ، خاصة فيما يتعلق بشهادة العائلة المسيحية الشُجاعة والمتواضعة. من ناحية أخرى، تظهر عقبات داخل الكنيسة. كان رفض الكهنة والأساقفة، وعداء الإخوة الكاثوليك، والمعلومات المشوّهة والكاذبة عن الكنيسة في كثير من الأحيان على وسائل التواصل الاجتماعي، مؤلمًا للغاية. غير أنها لم تكن أقل ألمًا من حملات التشهير التي شنّتها وسائل الإعلام المعادية للكنيسة، والتي كان على بادىء “الطريق” مواجهتها أيضًا. كتب في 1 يونيو/ حزيران 2001: أنا أخرُج من مِحنةٍ أو من تجربةٍ رهيبة. عَرفتُ العذاب النّاتج عن مُكابدة الافتراء والخيانة والكَذِب. اتَّهموني بِأباطيل، ووَشَوا بي بِأكاذيب. أصدروا عليَّ حُكمًا وأدانوني دون أن يَسمعوني. أسلمني الرَّبُّ لِأعدائي” (عدد 337). لقد تألم خاصةً وبشكل عميق وشديد بسبب الانتقادات المُهينة التي انتشرت في الرأي العام في مدريد، بخصوص لوحاته في حنيةّ كاتدرائية “المودينا”، بمناسبة زفاف ولي العهد “دون فيليبي لدونا ليتيزيا”. كتب كيكو يوم الخميس الواقع فيه 2 يونيو/ حزيران 2004 : أعود إلى هذه الصفحات بعد أن خُبِطتُ وهُزِزتُ وتعرضتُ للسخرية علنًا… (عدد 386).

ومع ذلك، فإن العزاء الذي كان على وشك أن يختبره في “الجلجثة” الكنسيّة والعلمانيّة، كان من شأنه أن يكون أكثر دفئًا وعظمة. لقد جاء الاعتراف الكنسي بـ “الطريق” من قبل الباباوات -المبارك بولس السادس والقديس يوحنا بولس الثاني وبندكتوس السادس عشر- دائمًا في الوقت المناسب، خصوصًا عندما تنامت المواقف العدائية للأصدقاء والأعداء، وأصبحت قوّة “مُغوي النفوس” أكثر تأثيرًا في كلّ مرة. وبالفعل، فمنذ  رسالة المدح التي أقرّها بولس السادس في لحظة الانتقال إلى السبعينيات من القرن الماضي، في الفترة الأولى بعد المجمع، تمّت الموافقة على النظام الأساسيّ للطريق من قبل يوحنا بولس الثاني في 29 يونيو/ حزيران ، 2002، تلَتها الموافقة النهائية للبابا بندكتوس السادس عشر في تاريخ 13 حزيران (يونيو) 2008، والموافقة على “الدليل الكرازيّ”  في طريق الموعوظين الجديد في يناير / كانون الثاني 2012. كان التقدير الذي أعلنه القديس يوحنا بولس الثاني، وعبّر عنه لمؤسس “الطريق” مؤثرًا. في تاريخ 25 سبتمبر/ أيلول 2002، تمّت الموافقة على النظام الأساسيّ. أمّا كيكو فذكر: “استقبلنا البابا في كاستيل چاندولفو. وكنّا مع كلّ المبشّرين المتجوّلين وكهنة الرعايا ومسؤولي أقدم الجماعات. وقبَّلَنا البابا أنا وكارمن عندما اقتربنا لنسلّم عليه، مُظهِرًا أمام الجميع المحبّة التي يكنّها لنا. يا ربّ، امنح البابا الصحّة والقوّة النبويَّة والتعزية!” (عدد 376).

كانت جماعات “الطريق” تنمو في جميع أنحاء العالم، وازداد عدد المتجوّلين دون انقطاع، وتم ّ تأسيس إكليريكيّات “أم الفادي” في كل ّمكان في العالم، في عدد متزايد من الأبرشياّت؛ وظهرت صيغة جديدة غير معروفة حتى الآن  هي “العائلات في الرسالة” و”الرسالة إلى الأُمم”. تتزايد اللقاءات مع مجموعات الأساقفة من جميع القارات: تُعقد هذه اللقاءات في بلدانهم أو في بيت الجليل قُرب بحيرة طبريّا. تُعتبر هذه اللقاءات كفرصةٍ روحيّة محفّزة جدًّا ليصير الإهتمام بالمعنى الحقيقي لـ “الشركة” الهرميّة في الكنيسة وتعميقها. غالبًا ما تم ترشيح كيكو من قبل البابا يوحنا بولس الثاني وبندكتوس السادس عشر كـ “مُستمع” في المجامع الأسقفية التي عقدوها. تتكرر علامات التقدير الكنسي الكبير لـ “الطريق” وتتضاعف باستمرار.

  1. هل انتهت محن الجسد والروح الداخلية والخارجية بالنسبة لكيكو؟

إذا وصلنا في القراءة إلى آخر ملاحظة من المدوّنات، الأخيرة لعام 2014، فإننا ندرك كيف أنّ خبرة “ليلة الروح المظلمة” الروحيّة كان لها تأثير كبير  في أعمق مشيئة قلب كيكو، وفي وجوده الشخصيّ،  وقد ساهمت حتى النهاية، أكثر فأكثر،  في تنقيته  وتقديسه. في الختام، تُشعّ في “مدوّنات” كيكو أرغويّو شخصية فريدة تتمتّع بروحانيّة مسيحيّة مميّزة للغاية، وهي  تُجيبُ على “علامات الأزمنة”، أي على أعمق احتياجات إنسان اليوم. في أصعب الظروف، وفي أكثر المواقف ألمًا التي كان عليه أن يمرّ بها بطريقة مسيحيّة وكنسيّة، حاول كيكو أن يُصلّي ويتأمّل عزلة الصحراء. كان يجد دائمًا مأوًى في مغارة موراتالا، في مورسيا بإسبانيا. من ناحية أخرى، تتدفق التقوى الكريستولوجيّة والمريميّة، بشكل شاعري، من الصلوات العديدة التي تمّ تقديمها على شكل شعرٍ ، والتي تُرافِقُ روحيًا مجرى حياته كلها، كما ينعكس في تسلسل “مدوّنات”. قراءة كيكو الروحيّة اليوميّة للكتاب المقدس -للعهدين القديم والجديد- ووضعها في المقام الأوّل،  وإلمامه بالمزامير التي تذوّقها روحيًّا، ولم يهملها أبدًا، تطبع كلّها حياة الصلاة الخاصة به. من جهّةأخرى،  جمع كيكو التأثير اللاهوتي والنسكي لـ “آباء الصحراء” القدامى بوضوح في عدة صفحات من كتاب “مدوّنات”. أُخِذ كيكو أرغويّو  بالنموذج الأدبي والخبرة الروحيّة اللذان يميّزان  القديس يوحنا الصليب في نشيده الروحي، (مع بعض الاقتباسات من القديسة تريزا ليسوع)،وهذا ما منح شخصيته الداخلية والكنسيّة أكثر السمات الأساسية المميزة للروحانية الإسبانية الكلاسيكية. هكذا يعبّر في قصائده الأخيرة التي يُنهي بها “مدوّنات”:

” أودّ أن أكون، وأنا باكٍ، يا رفيقَ النّفس، يا يسوعي، أيِّلًا مجروحًا يتيه في الغابة المظلمة فلا يجد تعزية. أيِّلٌ عطشان، أيِّلٌ مجروح” (عدد 499).

“وأعيش وأعيش في ذكراك المتواصلة. في هذه اللّانهاية من لحظاتٍ لا تنقطع، وقلبي مجروح” (عدد 500).

ملأته وفاة كارمن في 19 يونيو 2016 حزنًا:

“لمَ تبكين، يا نفسي؟ لمَ تبكين؟ ذهبت كارمن مع الرّبّ” (عدد 506).

“كم أنّ الطّريق مَدين لكارمن!” (عدد 505).

في نهاية قراءة هذا الكتاب من اعترافات كيكو -اعترافات عن حياة تُمنح دون قيد أو شرط للرب وكنيسته، “اعترافات” بموهبة غير عادية لكنيسة المجمع الفاتيكاني الثاني- من السهل جدًا الموافقة على الجملة التقييمية للـ”الطريق” التي عبّر عنها الأب الأقدس فرنسيس في 5 مايو من هذا العام (2018) أمام الآلاف والآلاف من الإخوة ،الذين أتوا من جميع أنحاء العالم إلى روما، تور فيرغاتا، للاحتفال بالذكرى الخمسين لثماره الرومانية الأولى : “إخوتي وأخواتي الأعزاء، إن موهبتكم هي نعمة عظيمة من الله لكنيسة اليوم”. لم ينسَ كيكو أبدًا  كلمات والدة الرب التي سمعها في منزل أبيه في مدريد في تلك الأيام البعيدة من اهتدائه؛ لذلك  كان يعرف جيدًا، أن “الطريق” هو  موهبة رائعة لكنيسة قرننا لم تكن لتتحقق بدون شفاعة مريم، وهكذا أيضًا “الوحيد والوحيدة” لم يكن لِيحدث أبدًا: “تسمع أنّه يقول لك: “هذه أمّك”. نعم، هي تساعدني على ألاّ أبتعد عن أرادة الله، وألاّ أقع في الخطيئة. هي عرفت في قلبها وجع الخطيئة على جسد ابنها، هي تعلم، هي تعرف، هي ستساعدك. هي الحيّة في السماء، تصلّي من أجلي” (عدد 180).

كيكو: لقد حان دوري. أتكلّم بالأسبانيّة؟

Card. Rouco: Er kann Deutsch reden, wenn er will, natürlich. (يمكنك التحدّث بالألمانية اذا رغبت بذلك).

كيكو: جزيل الشكر للكاردينال. أحيي الجميع. أنا في ألمانيا، صحيح؟ لقد وصلت لتوّي من الطائرة. ولا أعرف أين نحن. حسنًا، تحيا المانيا. تحيا المانيا.

الجمع: تحيا! (تصفيق)

ربما يفتح البعض منكم الكتاب  ويرى: “قبول الاتّهامات، والحبّ للعدو. البدء بالتواضع هو في عدم الدينونة. القاضي يدين. الذي يدين هو الذي يعتقد بأنّه يعرف الحقيقة ويملكها… “لا تدينوا!”. قبول الإهانات… محبّة العدو. الشعور بأن القلب مشتعل بالنار كي يعرف الجميع الروح القدس وينالوا حبّ الله. دم المسيح وجسده، غذاء الحياة الأبديّة. مات الموت. الانتصار. الانتصار. ومريم الصغيرة تحت الصليب، وفي نفسها سيف” هي مكتوبة هكذا. “يا رب، أريد أن أعمل مشيئتك… الحبّ نحو القريب هو إرادتك. “الآخر هو المسيح”. أعطني نعمة روحك لأحبّ الآخر كما أنت تحبّه، حتى بذلِ الجسد والدم. روحك القدّوس وحده يدفعني ويساعدني لأصعد على الصليب. ألف شيطان يريد أن يفترسني. سأواضع نفسي وأغلبهم. الويل لي، لأنّي سأدين نفسي! أنا متعجرف، شهواني، كسلان، متبجّح… الويل لي، لأنّي أخونك! الويل لي، لأني أضع كلّ ما تفعله في الخطر”. “طريقان: إمّا أن أعطي حياتي لقريبي أو أعطيه الموت بسبب خطاياي. ألف شيطان يحاصرني: باسم الربّ سأغلبهم. باسمك سأواضع نفسي، وبفضل اسمك سأغلب وٍاقدر أن أبقى بلا شيء، فقط معك أنت”. “اليوم، عيد سيّدة الكرمل، 16 يوليو\تموز من سنة 1994. خطاياي كثيرة… يا أمّ يسوع القدّيسة، تشفّعي لي”.

إنهّا اعترافات. منافذ الروح. أقول للرب: ماذا تريد مني؟ من أنا؟ ماذا تريد أن تفعل معي؟ ارحمني. كن رحيمًا. ما مدى صعوبة العيش، ارحمني. لهذا السبب، أراد الرب أن آتي إلى هنا، إلى ألمانيا، لأبقى هنا وأعطيكم كلمة على قدر ما أستطيع. كونوا لطفاء وصلّوا لأجلي.

Share: